فصل: تفسير الآيات رقم (56- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏بئاياتنا‏}‏ الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض، و‏{‏سَوْفَ‏}‏ كلمة تذكر للتهديد قاله سيبويه‏.‏ وينوب عنها السين‏.‏ وقد تقدّم معنى نصلي في أوّل السورة‏.‏ والمراد‏:‏ ندخلهم ناراً عظيمة‏.‏ وقرأ حميد بن قيس «نَصْلِيهِمْ» بفتح النون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏}‏ يقال‏:‏ نضج الشيء نضجاً ونضاجاً، ونضج اللحم، وفلان نضج الرأي، أي‏:‏ محكمه‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها كلما احترقت جلودهم بدّلهم الله جلوداً غيرها، أي‏:‏ أعطاهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص؛ لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحتر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالجلود‏:‏ السرابيل التي ذكرها في قوله‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 50‏]‏ ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ها هنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً، كما في قول الشاعر‏:‏

كسا اللوم تيما خضرة في جلودها *** فويل لتيم من سرابيلها الخضر

وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أعدنا الجلد الأوّل جديداً، ويأبى ذلك معنى التبديل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ أي‏:‏ ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ليدوم لهم العذاب، ولا ينقطع، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين‏.‏ وقد تقدّم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا، والظل الظليل الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ، والسموم، ونحو ذلك، وقيل‏:‏ هو مجموع ظلّ الأشجار، والقصور‏.‏ وقيل‏:‏ الظلّ الظليل‏:‏ هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة، كما يقال‏:‏ ليل أليل‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلوداً بيضاء أمثال القراطيس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عنه بسند ضعيف قال‏:‏ قرئ عند عمر‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏}‏ الآية، فقال معاذ‏:‏ عندي تفسيرها تبدّل في ساعة مائة مرة، فقال عمر‏:‏ هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن مردويه أن القائل كعب، وأنه قال‏:‏ تبدّل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏ظِلاًّ ظَلِيلاً‏}‏ قال‏:‏ هو ظل العرش الذي لا يزول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع؛ لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات، وقد روي عن علي، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين، والأوّل أظهر، وورودها على سبب، كما سيأتي، لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أوّليا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات، وردّ الظلامات، وتحرّي العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب، فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات، والتحري في الشهادات والأخبار‏.‏ وممن قال بعموم هذا الخطاب‏:‏ البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، واختاره جمهور المفسرين، ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها‏:‏ الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر‏.‏ والأمانات جمع أمانة، وهي‏:‏ مصدر بمعنى المفعول‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل‏}‏ أي‏:‏ وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏.‏ والعدل‏:‏ هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله، ولا بما هو أقرب إليهما، فهو لا يدري ما هو العدل؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏نِعِمَّا‏}‏ «ما» موصوفة أو موصولة، وقد قدّمنا البحث في مثل ذلك‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة، وردّه إليه، وقرأ هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر، عن ابن جريج‏:‏ أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدعاه، ودفعه إليه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة، عن علي قال‏:‏ حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا له، وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا‏.‏ وأخرج أبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أدّ الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك» وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن، ففيه خصلة من خصال النفاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

لما أمر سبحانه القضاة، والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عزّ وجلّ هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه‏.‏ وأولي الأمر هم‏:‏ الأئمة، والسلاطين، والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد‏:‏ طاعتهم فيما يأمرون به، وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال جابر بن عبد الله، ومجاهد‏:‏ إن أولي الأمر، هم‏:‏ أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك‏.‏ وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هم أهل العقل والرأي، والراجح القول الأوّل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَئ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول‏}‏ المنازعة المجاذبة، والنزع‏:‏ الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد‏:‏ الاختلاف، والمجادلة، وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فِي شَئ‏}‏ يتناول أمور الدين والدنيا، ولكنه لما قال‏:‏ ‏{‏فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول‏}‏ تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا، والردّ إلى الله‏:‏ هو الردّ إلى كتابه العزيز، والردّ إلى الرسول‏:‏ هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما في حياته، فالردّ إليه سؤاله، هذا معنى الردّ إليهما‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الردّ أن يقولوا‏:‏ الله أعلم، وهو قول ساقط، وتفسير بارد، وليس الردّ في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ فيه دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين، وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الردّ المأمور به ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ لكم ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ أي‏:‏ مرجعاً، من الأول آل يؤول إلى كذا، أي‏:‏ صار إليه؛ والمعنى‏:‏ أن ذلك الردّ خير لكم، وأحسن مرجعاً ترجعون إليه‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أن الردّ أحسن تأويلاً من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدّي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وقصته معروفة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عطاء في الآية قال‏:‏ طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة ‏{‏وَأُوْلِى الأمر‏}‏ قال‏:‏ أولى الفقه، والعلم‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة، قال‏:‏ ‏{‏وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ‏}‏ هم‏:‏ الأمراء، وفي لفظ هم‏:‏ أمراء السرايا‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ أهل العلم‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن شيبة، وابن جرير، عن أبي العالية نحوه أيضاً‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَئ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول‏}‏ قال‏:‏ إلى كتاب الله، وسنة رسوله‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ميمون بن مهران في الآية قال‏:‏ الردّ إلى الله الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله ما دام حياً، فإذا قبض فإلى سنته‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة، والسدي مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ يقول‏:‏ ذلك أحسن ثواباً وخير عاقبة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ قال‏:‏ وأحسن جزاءً‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما، مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف، وأنه لا طاعة في معصية الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ‏}‏ فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو‏:‏ القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله، وعلى من قبله أن يكفروا به، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يتضح معناها‏.‏ وقد تقدّم تفسير الطاغوت، والاختلاف في معناه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الشيطان‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ‏}‏ والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب، كأنه قيل‏:‏ ماذا يفعلون‏؟‏ فقيل‏:‏ يريدون كذا، ويريد الشيطان كذا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ضَلاَلاً‏}‏ مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور، والتقدير‏:‏ ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً‏.‏ والصدود‏:‏ اسم للمصدر، وهو الصدّ عند الخليل، وعند الكوفيين أنهما مصدران، أي‏:‏ يعرضون عنك إعراضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بيان لعاقبة أمرهم، وما صار إليهم حالهم، أي‏:‏ كيف يكون حالهم ‏{‏إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ وقت إصابتهم، فإنهم يعجزون عند ذلك، ولا يقدرون على الدفع‏.‏ والمراد‏:‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت ‏{‏ثُمَّ جَاءوكَ‏}‏ يعتذرون عن فعلهم، وهو عطف على ‏{‏أصابتهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ‏}‏ حال، أي‏:‏ جاءوك حال كونهم حالفين ‏{‏إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً‏}‏ أي‏:‏ ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ معناه‏:‏ ما أردنا إلا عدلاً، وحقاً مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 107‏]‏ فكذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ من النفاق والعداوة للحق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ قد علم الله أنهم منافقون ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن عقابهم‏.‏ وقيل عن قبول اعتذارهم‏:‏ ‏{‏وَعِظْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ خوّفهم من النفاق ‏{‏وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ في حق أنفسهم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم ‏{‏قَوْلاً بَلِيغاً‏}‏ أي‏:‏ بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم، وسبي نسائهم، وسلب أموالهم ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ‏}‏ «من» زائدة للتوكيد ‏{‏إلاَّ لِيُطَاعَ‏}‏ فيما أمر به ونهى عنه ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ بعلمه‏.‏ وقيل بتوفيقه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بترك طاعتك، والتحاكم إلى غيرك ‏{‏جَاءوكَ‏}‏ متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم، ومخالفتهم ‏{‏فاستغفروا الله‏}‏ لذنوبهم، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم، فاستغفرت لهم، وإنما قال‏:‏ ‏{‏واستغفر لَهُمُ الرسول‏}‏ على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ أي‏:‏ كثير التوبة عليهم والرحمة لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ‏}‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلا‏}‏ ردّ على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله‏:‏ ‏{‏وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقيل‏:‏ إنه قدّم «لا» على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل‏:‏ لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير‏:‏ فوربك لا يؤمنون، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏ ‏{‏حتى يُحَكّمُوكَ‏}‏ أي‏:‏ يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل‏:‏ معناه‏:‏ يتحاكمون إليك، ولا ملجئ لذلك ‏{‏فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة‏:‏

وهم الحكام أرباب الهدى *** وسعاة الناس في الأمر الشجر

أي‏:‏ المختلف، ومنه‏:‏ تشاجر الرماح، أي‏:‏ اختلافها ‏{‏ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ‏}‏ قيل‏:‏ هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام، أي‏:‏ فتقضي بينهم، ثم لا يجدوا‏.‏ والحرج‏:‏ الضيق، وقيل‏:‏ الشك، ومنه قيل للشجر الملتفّ‏:‏ حرج وحرجة، وجمعها حراج‏.‏ وقيل‏:‏ الحرج‏:‏ الإثم، أي‏:‏ لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت ‏{‏وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ أي‏:‏ ينقادوا لأمرك، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏تَسْلِيماً‏}‏ مصدر مؤكد، أي‏:‏ ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً، ولا شبهة فيه‏.‏ والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم، كما يؤيد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله‏}‏ فلا يختص بالمقصودين بقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته، فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة، أو في أحدهما‏.‏ وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالماً باللغة العربية، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيراً بالسنة المطهرة، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب، ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف، ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها‏.‏ وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ‏}‏ فضم إلى التحكيم أمراً آخر، وهو عدم وجود حرج، أي‏:‏ حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضمّ إليه قوله‏:‏ ‏{‏وَيُسَلّمُواْ‏}‏ أي‏:‏ يذعنوا، وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد، فقال‏:‏ ‏{‏تَسْلِيماً‏}‏ فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليماً لا يخالطه ردّ، ولا تشوبه مخالفة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني بسند قال السيوطي‏:‏ صحيح عن ابن عباس، قال‏:‏ كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ كان الجلاس بن الصامت قبل توبته، ومعقب بن قشير، ورافع بن زيد، كانوا يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ قال‏:‏ الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له‏:‏ كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا‏:‏ بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير‏:‏ أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج من الحرّة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل‏.‏ فقال الأنصاري‏:‏ سرح الماء يمرّ، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك»، فغضب الأنصاري، وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك‏؟‏ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك»، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري‏.‏

استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير‏:‏ ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق ابن لهيعة عن الأسود‏:‏ أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فقضى بينهما، فقال المقضيّ عليه‏:‏ ردنا إلى عمر، فردهما، فقتل عمر الذي قال ردّنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول، فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 70‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

«لَوْ» حرف امتناع، و«أن» مصدرية، أو تفسيرية؛ لأن ‏{‏كَتَبْنَا‏}‏ في معنى أمرنا‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم، أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏ راجع إلى المكتوب الذي دلّ عليه كتبنا، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدّمنا وجهه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قرأه الجمهور بالرفع على البدل‏.‏ وقرأ عبد الله بن عامر، وعيسى بن عمر «إِلاَّ قَلِيلاً» بالنصب على الاستثناء، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والرفع أجود عند النحاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَكَانَ‏}‏ ذلك ‏{‏خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ في الدنيا والآخرة، ‏{‏وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ لأقدامهم على الحق، فلا يضطربون في أمر دينهم ‏{‏وَإِذّن‏}‏ أي‏:‏ وقت فعلهم لما يوعظون به ‏{‏لآتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به، وانقاد لمن يدعوه إلى الحق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله والرسول‏}‏ كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والاشارة بقوله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إلى المطيعين، كما تفيده من ‏{‏مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم‏.‏ والصدّيق المبالغ في الصدق، كما تفيده الصيغة‏.‏ وقيل‏:‏ هم فضلاء أتباع الأنبياء‏.‏ والشهداء‏:‏ من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين‏:‏ أهل الأعمال الصالحة‏.‏ والرفيق مأخوذ من الرفق، وهو‏:‏ لين الجانب، والمراد به‏:‏ المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وهو منتصب على التمييز، أو الحال، كما قال الأخفش‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ هم‏:‏ يهود، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ نحوه‏.‏ وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا‏:‏ لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا‏.‏ أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن‏.‏ وأخرجه ابن أبي حاتم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير‏.‏ وأخرجه أيضاً عن شريح بن عبيد‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والضياء المقدسي في صفة الجنة، وحسنه عن عائشة قالت‏:‏ جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي، وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 76‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ هذا خطاب لخلص المؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، والحذر، والحذر لغتان‏:‏ كالمثل، والمثل‏.‏ قال الفراء‏:‏ أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضاً، يقال‏:‏ خذ حذرك أي‏:‏ احذر، وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ الأمر لهم بأخذ السلاح حذراً؛ لأن به الحذر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فانفروا‏}‏ نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً‏.‏ والمعنى‏:‏ انهضوا لقتال العدوّ‏.‏ أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار، والنفور، وهو‏:‏ الفزع، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏ أي‏:‏ نافرين، قوله‏:‏ ‏{‏ثُبَاتٍ‏}‏ جمع ثبة، أي‏:‏ جماعة، والمعنى‏:‏ انفروا جماعات متفرقات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ أي‏:‏ مجتمعين جيشاً واحداً‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين؛ ليكون ذلك أشدّ على عدوّهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء، إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك، وقيل‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 39‏]‏ والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان‏:‏ إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد‏:‏ المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج، ويقعدون غيرهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطيء المؤمنين ويثبطهم، واللام في قوله‏:‏ ‏"‏ لِمَنْ ‏"‏ لام توكيد، وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ لام جواب القسم، و«من» في موضع نصب، وصلتها الجملة‏.‏ وقرأ مجاهد، والنخعي، والكلبي ‏{‏لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ بالتخفيف ‏{‏فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال‏.‏ قال هذا المنافق قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم ‏{‏وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ‏}‏ غنيمة أو فتح ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ هذا المنافق قول نادم حاسد ‏{‏ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ جملة معترضة بين الفعل الذي هو ‏{‏ليقولن‏}‏ وبين مفعوله، وهو‏:‏ ‏{‏يا لَيْتَنِى‏}‏ وقيل‏:‏ إن في الكلام تقديماً وتأخيراً‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ليقولنّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة أي‏:‏ كأن لم يعاقدكم على الجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع نصب على الحال‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏"‏ لَّيَقُولَنَّ ‏"‏ بضم اللام على معنى من‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم ‏"‏ كَأَن لَّمْ تَكُنْ ‏"‏ بالتاء على الفظ المودّة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَأَفُوزَ‏}‏ بالنصب على جواب التمني‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏"‏ فَأَفُوزَ ‏"‏ بالرفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ هذا أمر للمؤمنين، وقدّم الظرف على الفاعل للاهتمام به‏.‏ و‏{‏الذين يَشْرُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يبيعون، وهم المؤمنون، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ‏}‏ جواب الشرط مقدّر، أي‏:‏ لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بأن منهم لمن ليبطئن، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وإن غلب، وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلوّ في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً، أو انقلب غانماً، وربما يقال‏:‏ إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه، وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏المستضعفين‏}‏ مجرور عطفاً على الاسم الشريف، أي‏:‏ ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر، وتريحوهم مما هم فيه من الجهد‏.‏ ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي‏:‏ وأخص المستضعفين، فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله، واختار الأوّل الزجاج، والأزهري‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ أختار أن يكون المعنى، وفي المستضعفين، فيكون عطفاً على السبيل، والمراد بالمستضعفين هنا‏:‏ من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم‏:‏ الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول‏:‏ «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين» كما في الصحيح‏.‏ ولا يبعد أن يقال‏:‏ إن لفظ الآية أوسع، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا‏}‏ فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة؛ لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها‏:‏ مكة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ بيان للمستضعفين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ هذا ترغيب للمؤمنين، وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره ‏{‏والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت‏}‏ أي‏:‏ سبيل الشيطان، أو الكهان، أو الأصنام، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً‏}‏ أي‏:‏ مكره، ومكر من اتبعه من الكفار‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فانفروا ثُبَاتٍ‏}‏ قال‏:‏ عصباً، يعني سرايا متفرقين ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ يعني كلكم‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه قال في سورة النساء‏:‏ ‏{‏خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ نسختها‏:‏

‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ثُبَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ فرقاً قليلاً‏.‏ وأخرج عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ أي‏:‏ إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يتخلف عنه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ما بين ذلك في المنافقين‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان في الآية قال‏:‏ هو فيما بلغنا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ‏}‏ يعني‏:‏ يقاتل المشركين ‏{‏فِى سَبِيلِ الله‏}‏ في طاعة الله ‏{‏وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ‏}‏ يعني‏:‏ يقتله العدوّ ‏{‏أَو يَغْلِبْ‏}‏ يعني‏:‏ يغلب العدوّ من المشركين ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ يعني‏:‏ جزاءً وافراً في الجنة، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فِى سَبِيلِ الله والمستضعفين‏}‏ قال‏:‏ وفي المستضعفين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الزهري قال‏:‏ وسبيل المستضعفين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه من طريق العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها‏.‏ وأخرج البخاري، عنه قال‏:‏ «أنا وأمي من المستضعفين» وأخرج ابن جرير، عنه قال‏:‏ القرية الظالم أهلها مكة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عائشة مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ إذا رأيتم الشيطان، فلا تخافوه، واحملوا عليه ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة، فكنت أذكر قول ابن عباس، فأحمل عليه، فيذهب عني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ الآية، قيل‏:‏ هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه‏.‏ فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت، وفرقاً من هول القتل، وقيل‏:‏ إنها نزلت في اليهود، وقيل‏:‏ في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه، وهذا أشبه بالسياق لقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ الآية‏.‏ ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَخَشْيَةِ الله‏}‏ صفة مصدر محذوف، أي‏:‏ خشية كخشية الله، أو حال، أي‏:‏ تخشونهم مشبهين أهل خشية الله، والمصدر مضاف إلى المفعول، أي‏:‏ كخشيتهم الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً‏}‏ معطوف على ‏{‏كخشية الله‏}‏ في محل جر، أو معطوف على الجار والمجرور جميعاً، فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه، «وأو» للتنويع على أن خشية بعضهم كخشية الله، وخشية بعضهم أشد منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على ما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فلما كتب عليهم القتال، فاجأ فريق منهم خشية الناس‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا‏}‏ أي‏:‏ هلا أخرتنا، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ‏}‏ سريع الفناء لا يدوم لصاحبه، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ منكم، ورغب في الثواب الدائم ‏{‏وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ أي‏:‏ شيئاً حقيراً يسيراً، وقد تقدّم تفسير الفتيل قريباً، وإذا كنتم توفرون أجوركم، ولا تنقصون شيئاً منها، فكيف ترغبون عن ذلك، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت‏}‏ كلام مبتدأ، وفيه حثّ لمن قعد عن القتال خشية الموت، وبيان لفساد ما خالطه من الجبن، وخامره من الخشية، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة فمن لم يمت بالسيف مات بغيره‏.‏ والبروج جمع برج‏:‏ وهو البناء المرتفع، والمشيدة‏:‏ المرفعة من شاد القصر‏:‏ إذا رفعه، وطلاه بالشيد، وهو الجصّ، وجواب «لولا» محذوف لدلالة ما قبله عليه‏.‏ وقد اختلف في هذه البروج ما هي‏؟‏ فقيل‏:‏ الحصون التي في الأرض، وقيل‏:‏ هي القصور‏.‏ قال الزجاج، والقتيبي‏:‏ ومعنى مشيدة مطوّلة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه مطلية بالشيد، وهو الجص، وقيل‏:‏ المراد بالبروج‏:‏ بروج في سماء الدنيا مبنية، حكاه مكيّ عن مالك، وقال‏:‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏والسماء ذَاتِ البروج‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 16‏]‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالبروج المشيدة هنا‏:‏ قصور من حديد‏.‏

وقرأ طلحة بن سليمان‏:‏ ‏{‏يُدْرِككُّمُ الموت‏}‏ بالرفع على تقدير الفاء، كما في قوله‏:‏

وقال رائدهم أرسوا نزاولها *** قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ هذا، وما بعده مختص بالمنافقين، أي‏:‏ إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى، وإن تصبهم بلية، ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ ليس، كما تزعمون، ثم نسبهم إلى الجهل، وعدم الفهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً‏}‏ أي‏:‏ ما بالهم هكذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أي‏:‏ ما أصابك من خصب، ورخاء، وصحة، وسلامة، فمن الله بفضله، ورحمته، وما أصابك من جهد، وبلاء وشدّة، فمن نفسك بذنب أتيته، فعوقبت عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثاً، أي‏:‏ فيقولون ما أصابك من حسنة، فمن الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن ألف الاستفهام مضمرة، أي‏:‏ أفمن نفسك، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏ والمعنى، أو تلك نعمة، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبّى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ أي‏:‏ أهذا ربي، ومنه قول أبي خراش الهذلي‏:‏

رموني وقالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي‏:‏ أهم هم‏؟‏ وهذا خلاف الظاهر، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏‏.‏ وقد يظن أن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ مناف لقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 166‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ وليس الأمر كذلك، فالجمع ممكن، كما هو مقرّر في مواطنه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجميع، كما يفيده التأكيد بالمصدر، والعموم في الناس، ومثله قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏ على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفي هذا من النداء بشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلوّ شأنه، وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهي إلا عما نهى الله عنه‏:‏ ‏{‏وَمَن تولى‏}‏ أي‏:‏ أعرض ‏{‏فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ أي‏:‏ حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ، وقد نسخ هذا بآية السيف ‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ‏}‏ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ أمرنا طاعة، أو شأننا طاعة‏.‏

وقرأ الحسن، والجحدري، ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر، أي‏:‏ نطيع طاعة، وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين، أي‏:‏ يقولون إذا كانوا عندك طاعة ‏{‏وَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ‏}‏ أي‏:‏ خرجوا من عندك‏.‏ ‏{‏بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ زوّرت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت، وتأمرهم به، أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك وقيل‏:‏ معناه‏:‏ غيروا وبدّلوا وحرّفوا قولك فيما عهدت إليهم، والتبييت‏:‏ التبديل، ومنه قول الشاعر‏:‏

أتوني فلم أرض ما بيتوا *** وكانوا أتوني بأمر نكر

يقال بيت الرجل الأمر‏:‏ إذا دبره ليلاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏ ‏{‏والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ‏}‏ أي‏:‏ يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى ينزله عليك في الكتاب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لا تخبر بأسمائهم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لا تعاقبهم‏.‏ ثم أمره بالتوكل عليه، والثقة به في النصر على عدوه، قيل‏:‏ وهذا منسوخ بآية السيف‏.‏

وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا نبي الله كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة‏؟‏ فقال‏:‏ «إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم»، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في تفسير الآية نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ أنها نزلت في اليهود‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ‏}‏ الآية، قال‏:‏ نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ قال‏:‏ هو الموت‏.‏ وأخرجا نحوه، عن ابن جريج‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة ‏{‏فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ قال‏:‏ في قصور محصنة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ هي قصور في السماء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سفيان نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ يقول‏:‏ نعمة ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ قال‏:‏ مصيبة ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ قال‏:‏ النعم والمصائب‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ قال‏:‏ هذه في السرّاء والضرّاء، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هذه في الحسنات والسيئات، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ يقول‏:‏ الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ‏}‏ قال‏:‏ ما أصابه يوم أحد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيته‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم أحد يقول‏:‏ ما كانت من نكبة فبذنبك، وأنا قدّرت ذلك‏.‏ وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ‏:‏ «وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَنَا كتبتها عَلَيْكَ» قال مجاهد‏:‏ وكذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود‏.‏ وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ‏}‏ قال‏:‏ هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ‏{‏فَإِذَا بَرَزُواْ‏}‏ من عند رسول الله ‏{‏بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه قال غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

الهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ‏}‏ للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر، أي‏:‏ أيعرضون عن القرآن، فلا يتدبرونه‏.‏ يقال تدبرت الشيء‏:‏ تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبير‏:‏ أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته، ودلت هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏ على وجوب التدبر للقرآن؛ ليعرف معناه‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني، قوي المباني، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً‏}‏ أي‏:‏ تفاوتاً وتناقضاً، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات، والسور؛ لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت، وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال، وتعرّض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ‏}‏ يقال‏:‏ أذاع الشيء وأذاع به‏:‏ إذا أفشاه، وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين، وقتل عدوّهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ‏}‏ وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم ‏{‏لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي أن يكتم‏.‏ والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء‏:‏ إذا استخرجته‏.‏ والنبط‏:‏ الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء البئر عند حفرها‏.‏ وقيل‏:‏ إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها، فتحصل بذلك المفسدة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله، وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان، فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم، أو إلا اتباعاً قليلاً منكم، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أذاعوا به إلا قليلاً منهم، فإنه لم يذع ولم يفش‏.‏ قاله الكسائي، والأخفش، والفراء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وابن جرير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً‏}‏ يقول‏:‏ إن قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، ومسلم، وابن أبي حاتم، من طريق ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا، ويقولون‏:‏ طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي‏:‏ لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم‏}‏ فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في الآية، قال هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها، فقالوا‏:‏ أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو يخبرهم به‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم أهل النفاق‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي معاذ مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان‏}‏ قال‏:‏ فانقطع الكلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ فهو في أوّل الآية يخبر عن المنافقين‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ بالقليل المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ‏}‏ قيل‏:‏ هي متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 74‏]‏ الخ، أي‏:‏ من أجل هذا فقاتل، وقيل‏:‏ متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 75‏]‏ فقاتل وقيل‏:‏ هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق تقديره‏:‏ إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة‏.‏ فالمعنى والله أعلم‏:‏ أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمته، أي‏:‏ أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ‏}‏ أي‏:‏ لا تكلف إلا نفسك، ولا تلزم فعل غيرك، وهو استئناف مقرّر لما قبله؛ لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده‏.‏ وقريء‏:‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ‏}‏ بالجزم على النهي، وقريء بالنون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَحَرّضِ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ حضهم على القتال، والجهاد، يقال حرّضت فلاناً على كذا‏:‏ إذا أمرته به، وحارض فلان على الأمر وأكبّ عليه وواظب عليه بمعنى واحد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم، والاطماع من الله عز وجلّ واجب، فهو وعد منه سبحانه، ووعده كائن لا محالة ‏{‏والله أَشَدُّ بَأْساً‏}‏ أي‏:‏ أشدّ صول وأعظم سلطاناً ‏{‏وَأَشَدُّ تَنكِيلاً‏}‏ أي‏:‏ عقوبة، يقال‏:‏ نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو‏:‏ العذاب‏.‏ والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان‏.‏

‏{‏مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا‏}‏ أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو‏:‏ الزوج، ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً، ومنه ناقة شفوع‏:‏ إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع‏:‏ إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها‏.‏ والشفع‏:‏ ضمّ واحد إلى واحد، والشفعة‏:‏ ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة‏:‏ ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، واتصال منفعة إلى المشفوع له‏.‏ والشفاعة الحسنة هي‏:‏ في البرّ والطاعة‏.‏ والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير؛ لينفع فله نصيب منها، أي‏:‏ من أجرها، ومن شفع في الشر، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي‏:‏ نصيب من وزرها‏.‏ والكفل‏:‏ الوزر والإثم، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير‏:‏ إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه؛ لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ‏.‏

ومن استعماله في الخير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتاً‏}‏ أي‏:‏ مقتدراً، قاله الكسائي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته يقال‏:‏ قته أقوته قوتاً، وأقته أقيته إقاتة، فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي أقات يقيت‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المقيت الحافظ‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه‏:‏ مقدار ما يحفظ الإنسان‏.‏ وقال ابن فارس في المجمل‏:‏ المقيت المقتدر، والمقيت‏:‏ الحافظ والشاهد‏.‏ وأما قول الشاعر‏:‏

ألي الفضل أم عليّ إذا حو *** سبت إني على الحساب مقيت

فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ التحية تفعلة من حييت، والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية؛ فأدغموا الياء في الياء، وأصلها الدعاء بالحياة‏.‏ والتحية‏:‏ السلام، وهذا المعنى هو المراد هنا، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏ وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين، وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا‏:‏ تشميت العاطس‏.‏ وقال أصحاب أبي حنيفة، التحية هنا الهدية لقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ ولا يمكن ردّ السلام بعينه، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا‏}‏ أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحية، فإذا قال المبتدئ‏:‏ السلام عليكم، قال المجيب‏:‏ وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدئ لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظاً أو ألفاظاً نحو‏:‏ وبركاته، ومرضاته، وتحياته‏.‏

قال القرطبي‏:‏ أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، وردّه فريضة لقوله‏:‏ ‏{‏فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا‏؟‏ فذهب مالك، والشافعي إلى الإجزاء، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره، ويردّ عليهم حديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم» أخرجه أبو داود، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني، وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم‏.‏ وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدئ، فإذا قال السلام عليكم، قال المجيب‏:‏ وعليكم السلام‏.‏ وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدئ بالسلام، ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط هاهنا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَئ حَسِيباً‏}‏ يحاسبكم على كل شيء وقيل‏:‏ معناه حفيظاً وقيل‏:‏ كافياً، قولهم أحسبني كذا‏:‏ أي‏:‏ كفاني، ومثله‏:‏ ‏{‏حَسْبَكَ الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62، 64‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ مبتدأ وخبر، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ جواب قسم محذوف، أي‏:‏ والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة، أي‏:‏ إلى حساب يوم القيامة وقيل‏:‏ «إلى» بمعنى في، وقيل‏:‏ إنها زائدة‏.‏

والمعنى‏:‏ ليجمعنكم يوم القيامة، و‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ يوم القيام من القبور ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في يوم القيامة، أو في الجمع، أي‏:‏ جمعاً لا ريب فيه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً‏}‏ إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، «ومن أزدق» بالزاي‏.‏ وقرأ الباقون بالصاد، والصاد الأصل‏.‏ وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي سنان في قوله‏:‏ ‏{‏وَحَرّضِ المؤمنين‏}‏ قال‏:‏ عظهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً‏}‏ الآية، قال‏:‏ شفاعة الناس بعضهم لبعض‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا‏}‏ قال‏:‏ حظ منها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كِفْلٌ مَّنْهَا‏}‏ قال‏:‏ الكفل هو الإثم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال‏:‏ الكفل الحظ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتاً‏}‏ قال‏:‏ حفيظاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن رواحة‏:‏ أنه سأله رجل، عن قول الله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتاً‏}‏ قال‏:‏ يقيت كل إنسان بقدر عمله‏.‏ وفي إسناده رجل مجهول‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مُّقِيتاً‏}‏ قال‏:‏ شهيداً‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه ‏{‏مُّقِيتاً‏}‏ قال‏:‏ شهيداً حسيباً حفيظاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏مُّقِيتاً‏}‏ قال‏:‏ قادراً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدّي قال‏:‏ المقيت القدير‏.‏ وأخرج أيضاً، عن ابن زيد مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال‏:‏ المقيت الرزاق‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ من سلم عليك من خلق الله، فاردد عليه، وإن كان يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً، ذلك بأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه‏.‏ قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي قال‏:‏ «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏"‏ وعليك ورحمة الله ‏"‏، ثم أتى آخر، فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال‏:‏ وعليك ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر، فقال‏:‏ السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له‏:‏

«وعليك»، فقال له الرجل‏:‏ يا نبي الله، بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي‏؟‏ فقال‏:‏ «إنك لم تدع لنا شيئاً، قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ فرددناها عليك»

وأخرج البخاري في الأدب المفرد، عن أبي هريرة‏:‏ أن رجلاً مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلس، فقال‏:‏ سلام عليكم، فقال‏:‏ «عشر حسنات»، فمرّ رجل آخر، فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله، فقال‏:‏ عشرون حسنة، فمرّ رجل آخر، فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال‏:‏ «ثلاثون حسنة» وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج البيهقي، عن سهل بن حنيف مرفوعاً نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج أحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي، عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد بعد كل مرّة أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ عليه، ثم قال‏:‏ «عشر» إلى آخره‏.‏ وأخرج أبو داود، والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعاً نحوه‏.‏ وزاد بعد قوله وبركاته‏:‏ ومغفرته، فقال‏:‏ «أربعون»، يعني حسنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 91‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏ سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏مَالَكُمْ‏}‏ للإنكار، واسم الاستفهام مبتدأ، وما بعده خبره‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيء كائن لكم ‏{‏فِى المنافقين‏}‏ أي‏:‏ في أمرهم وشأنهم حال كونكم ‏{‏فِئَتَيْنِ‏}‏ في ذلك‏.‏ وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين‏.‏ وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين، فقال الأخفش، والبصريون على الحال، كقولك‏:‏ مالك قائماً‏.‏ وقال الكوفيون انتصابه على أنه خبر لكان، وهي مضمرة، والتقدير‏:‏ فما لكم في المنافقين كنتم فئتين‏.‏ وسبب نزول الآية ما سيأتي وبه يتضح المعنى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله أَرْكَسَهُمْ‏}‏ معناه ردّهم إلى الكفر ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ وحكى الفراء، والنضر بن شميل، والكسائي أركسهم وركسهم، أي‏:‏ ردّهم إلى الكفر، ونكسهم، فالركس والنكس‏:‏ قلب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله إلى آخره، والمنكوس المركوس، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبيّ «والله ركسهم‏}‏ ومنه قول عبد الله بن رواحة‏:‏

اركسوا في فئة مظلمة *** كسواد الليل يتلوها فتن

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا‏}‏ سببية، أي أركسهم بسبب كسبهم، وهو لحوقهم بدار الكفر‏.‏ والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ للتقريع والتوبيخ، وفيه دليل على أن من أضله الله لا تنجع فيه هداية البشر ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً إلى الهداية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء‏}‏ هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين، وإيضاح أنهم يودّون أن يكفر المؤمنون كما كفروا، ويتمنوا ذلك عناداً وغلوّاً في الكفر وتمادياً في الضلال، فالكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا‏}‏ نعت مصدر محذوف، أي‏:‏ كفراً مثل كفرهم، أو حال، كما روي عن سيبويه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونُونَ سَوَاء‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏تَكْفُرُونِ‏}‏ داخل في حكمه، أي‏:‏ ودّوا كفركم ككفرهم، وودّوا مساواتكم لهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ جواب شرط محذوف، أي‏:‏ إذا كان حالهم ما ذكر فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا، ويحققوا إيمانهم بالهجرة ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن ذلك ‏{‏فَخُذُوهُمْ‏}‏ إذا قدرتم عليهم ‏{‏واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ في الحلّ والحرم ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً‏}‏ توالونه ‏{‏وَلاَ نَصِيراً‏}‏ تستنصرون به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق‏}‏ هو‏:‏ مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم‏}‏ أي‏:‏ إلا الذين يتصلون، ويدخلون في قوم بينكم وبينهم ميثاق بالجوار والحلف، فلا تقتلوهم لما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإن العهد يشملهم‏.‏ هذا أصح ما قيل في معنى الآية‏.‏ وقيل الاتصال هنا‏:‏ هو اتصال النسب‏.‏

والمعنى‏:‏ إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، قاله أبو عبيدة، وقد أنكر ذلك أهل العلم عليه؛ لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع، فقد كان بين المسلمين وبين المشركين أنساب، ولم يمنع ذلك من القتال‏.‏ وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق، فقيل‏:‏ هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ‏{‏والذين يَصِلُونَ‏}‏ إلى قريش هم‏:‏ بنو مدلج‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في هلال بن عويمر، وسراقة بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد‏.‏ وقيل‏:‏ خزاعة‏.‏ وقيل‏:‏ بنو بكر بن زيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏يَصِلُونَ‏}‏ داخل في حكم الاستثناء، أي‏:‏ إلا الذين يصلون، والذين جاءوكم، ويجوز أن يكون عطفاً على صفة قوم، أي‏:‏ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم، أي‏:‏ ضاقت صدورهم، عن القتال، فأمسكوا عنه والحصر‏:‏ الضيق، والانقباض‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو‏:‏ أي‏:‏ ‏{‏حصرت صدورهم‏}‏ حال من المضمر المرفوع في جاءوكم، كما تقول‏:‏ جاء فلان ذهب عقله، أي‏:‏ قد ذهب عقله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو خبر بعد خبر، أي‏:‏ جاءوكم‏.‏ ثم أخبر، فقال‏:‏ ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم، وقيل‏:‏ حصرت في موضع خفض على النعت لقوم‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ أو جاءوكم رجال، أو قوم حصرت صدورهم‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «أَوْ جَاءوكُمْ حصرةً صُدُورُهُمْ» نصباً على الحال‏.‏ وقرئ «حصرات، وحاصرات»‏.‏ وقال محمد بن يزيد المبرّد‏:‏ حصرت صدورهم هو دعاء عليهم، كما تقول لعن الله الكافر، وضعفه بعض المفسرين، وقيل‏:‏ «أو» بمعنى «الواو»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن يقاتلونكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ‏}‏ هو متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ حصرت صدورهم عن قتالكم، والقتال معكم لقومهم، فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين، وكرهوا ذلك ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ابتلاء منه لكم، واختباراً، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أخباركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏ أو تمحيصاً لكم، أو عقوبة بذنوبكم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏فلقاتلوكم‏}‏ جواب لو على تكرير الجواب، أي‏:‏ لو شاء الله لسلطهم ولقاتلوكم، والفاء للتعقيب ‏{‏فَإِنِ اعتزلوكم‏}‏ ولم يتعرضوا لقتالكم ‏{‏وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ أي‏:‏ استسلموا لكم، وانقادوا ‏{‏فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً، فلا يحلّ لكم قتلهم، ولا أسرهم ولا سلب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرّمه ‏{‏سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ‏}‏ فيظهرون لكم الإسلام، ويظهرون لقومهم الكفر؛ ليأمنوا من كلا الطائفتين، وهم قوم من أهل تهامة طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده، وعند قومهم‏.‏

وقيل هي في قوم من أهل مكة‏.‏ وقيل‏:‏ في نعيم بن مسعود، فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين‏.‏ وقيل‏:‏ في قوم من المنافقين‏.‏ وقيل‏:‏ في أسد وغطفان ‏{‏كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة‏}‏ أي‏:‏ دعاهم قومهم إليها، وطلبوا منهم قتال المسلمين ‏{‏أُرْكِسُواْ فِيِهَا‏}‏ أي‏:‏ قلبوا فيها، فرجعوا إلى قومهم، وقاتلوا المسلمين، ومعنى الارتكاس‏:‏ الانتكاس ‏{‏فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ‏}‏ يعني هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم، ويأمنوا قومهم ‏{‏وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ أي‏:‏ يستسلمون لكم، ويدخلون في عهدكم وصلحكم، وينسلخون عن قومهم ‏{‏وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ عن قتالكم ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم ‏{‏وَأُوْلَئِكُمْ‏}‏ الموصوفون بتلك الصفات ‏{‏جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً‏}‏ أي‏:‏ حجة واضحة تتسلطون بها عليهم، وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض، وما في صدورهم من الدغل، وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل، وأقلّ سعي‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول نقتلهم، وفرقة تقول لا، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ فِى المنافقين فِئَتَيْنِ‏}‏ الآية كلها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وإنها طيبة، وإنها تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة» هذا أصح ما روي في سبب نزول الآية، وقد رويت أسباب غير ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والله أَرْكَسَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أوقعهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ ردهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق‏}‏ قال‏:‏ نزلت في هلال بن عويمر، وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والبيهقي في سننه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين يَصِلُونَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ نسختها براءة ‏{‏فَإِذَا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السديّ‏:‏ ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ ضاقت صدورهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع ‏{‏وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ قال‏:‏ الصلح‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اعتزلوكم‏}‏ الآية، قال‏:‏ نسختها‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن، وعكرمة في هذه الآية قال‏:‏ نسختها براءة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قومهم، فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة أنهم ناس كانوا بتهامة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ أنها نزلت في نعيم ابن مسعود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏ هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً، وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط؛ وقيل المعنى‏:‏ ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل‏:‏ ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه، ثم استثنى منه استثناء منقطعاً فقال‏:‏ إلا خطأ، أي‏:‏ ما كان له أن يقتله البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه، والزجاج، وقيل‏:‏ هو استثناء متصل؛ والمعنى‏:‏ وما ثبت، ولا وجد، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب حينئذ، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولا خطأ‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا يعرف ذلك في كلام العرب، ولا يصح في المعنى؛ لأن الخطأ لا يحظر؛ وقيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، فيكون قوله خطأ منتصباً بأنه مفعول له، ويجوز أن ينتصب على الحال، والتقدير‏:‏ لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ إلا قتلاً خطأ، ووجوه الخطأ كثيرة، ويضبطها عدم القصد، والخطأ الاسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ، وعبر بالرقبة عن جميع الذات‏.‏

واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة، فقيل‏:‏ هي التي صلت، وعقلت الإيمان فلا تجزئ الصغيرة، وبه قال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وغيرهم‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين مسلمين‏.‏ وقال جماعة منهم مالك، والشافعي‏:‏ يجزيء كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزيء في قول جمهور العلماء أعمى، ولا مقعد، ولا أشلّ، ويجزيء عند الأكثر الأعرج، والأعور‏.‏ قال مالك‏:‏ إلا أن يكون عرجاً شديداً‏.‏ ولا يجزيء عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ‏}‏ الدية‏:‏ ما تعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته، والمسلمة‏:‏ المدفوعة المؤداة، والأهل المراد بهم‏:‏ الورثة، وأجناس الدية، وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏}‏ أي‏:‏ إلا أن يتصدّق أهل المقتول على القاتل بالدية، سمي العفو عنها صدقة ترغيباً فيه‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ إلا يتصدقوا، وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ‏}‏ أي‏:‏ فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فإن كان المقتول من قوم عدوّ لكم، وهم الكفار الحربيون، وهذه مسئلة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم، ولم يهاجر، وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على دين قومه، فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة‏.‏

واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل‏:‏ وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية، وقيل‏:‏ وجهه أن هذا الذي آمن، ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ وقال‏:‏ بعض أهل العلم إن ديته واجبة لبيت المال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ‏}‏ أي‏:‏ مؤقت أو مؤبد‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ» أي‏:‏ فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام، وهم ورثته ‏{‏وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً‏}‏ كما تقدم ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ أي‏:‏ الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ فعليه صيام شهرين متتابعين، لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف‏.‏ واختلف في الإفطار لعرض المرض‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏تَوْبَةً مّنَ الله‏}‏ منصوب على أنه مفعول له، أي‏:‏ شرع ذلك لكم توبة، أي‏:‏ قبولاً لتوبتكم، أو منصوب على المصدرية، أي‏:‏ تاب عليكم توبة، وقيل‏:‏ منصوب على الحال‏:‏ أي‏:‏ حال كونه ذا توبة كائنة من الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً‏.‏

وقد اختلف العلماء في معنى العمد، فقال عطاء، والنخعي، وغيرهما‏:‏ هو القتل بحديدة كالسيف، والخنجر، وسنان الرمح، ونحو ذلك من المحدّد، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة، أو بحجر، أو بعصى، أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة‏.‏ وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ عمد، وشبه عمد، وخطأ‏.‏ واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها‏.‏ وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين‏:‏ عمد، وخطأ ولا ثالث لهما‏.‏ واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان‏.‏ ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة، وقد ثبت ذلك في السنة‏.‏ وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له، أي‏:‏ يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالداً فيها، وبين غضب الله عليه، ولعنته له، وإعداده له عذاباً عظيماً‏.‏ وليس وراء هذا التشديد تشديد، ولا مثل هذا الوعيد وعيد‏.‏ وانتصاب خالداً على الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ‏}‏ معطوف على مقدّر، يدل عليه السياق، أي‏:‏ جعل جزاءه جهنم، أو حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعدّ له‏.‏

وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له‏؟‏ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ اختلف فيها علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها، فقال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً‏}‏ وهي آخر ما نزل، وما نسخها شيء‏.‏ وقد روى النسائي عنه نحو هذا‏.‏ وروى النسائي، عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأبو سلمة، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة، والضحاك ابن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم، عنهم‏.‏ وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏، قالوا أيضاً‏:‏ والجمع ممكن بين آية النساء هذه، وآية الفرقان، فيكون معناهما‏:‏ فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما، وقد اتحد السبب، وهو القتل، والموجب، وهو التوعد بالعقاب‏.‏ واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين، عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق»، ثم قال‏:‏ «فمن أصاب من ذلك شيئاً، فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وغيره في الذي قتل مائة نفس وذهب جماعة منهم أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب‏.‏ وقد أوضحت في شرحي على المنتقى مستمسك كل فريق‏.‏

والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك، وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً‏؟‏ لكن لا بدّ في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجباً، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً، وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها، أو بعضها‏.‏ وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف، ولا تسليم نفس، فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ‏}‏ يقول‏:‏ ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مُّبِيناً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ إن عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً كان يعذبه هو وأبو جهل، وهو أخوه لأمه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر‏.‏ وأوضح من هذا السياق ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال‏:‏ كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يعني‏:‏ الحارث، فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف، وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خطأ‏}‏ الآية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له‏:‏ ‏"‏ قم فحرّر ‏"‏ وأخرجه ابن جرير، وابن المنذر، عن السدّي بأطول من هذا‏.‏ وقد روي من طرق غير هذه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال‏:‏ نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف، فقال لا إله إلا الله، فضربه‏.‏ وأخرج ابن منده، وأبو نعيم نحو ذلك، ولكن فيه أن الذي قتل المتعوّذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصلى‏.‏ وكل رقبة في القرآن لم تسمّ مؤمنة، فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏}‏ قال‏:‏ عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدّق بها عليه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة قال‏:‏ في حرف أبيّ «فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي»‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والبيهقي، عن أبي هريرة‏:‏ أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء، فقال‏:‏ يا رسول الله إن عليّ عتق رقبة مؤمنة، فقال لها‏:‏ ‏"‏ أين الله‏؟‏ ‏"‏ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها‏:‏ ‏"‏ فمن أنا‏؟‏ ‏"‏ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، أي‏:‏ أنت رسول الله، فقال‏:‏ ‏"‏ أعتقها، فإنها مؤمنة ‏"‏ وقد روي من طرق، وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي‏.‏ وقد وردت أحاديث في تقدير الدية، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد ودية المسلم ودية الكافر، وهي معروفة، فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن إبراهيم النخعي في قوله‏:‏ ‏{‏وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ‏}‏ قال‏:‏ هذا المسلم الذي ورثته مسلمون‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ‏}‏ قال‏:‏ هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وليس بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد ‏{‏وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ‏}‏ قال‏:‏ هذا الرجل المسلم، وقومه مشركون، وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد، فيقتل، فيكون ميراثه للمسلمين، وتكون ديته لقومه؛ لأنهم يعقلون عنه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ‏}‏ يقول‏:‏ فإن كان في أهل الحرب، وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ‏}‏ يقول‏:‏ إذا كان كافراً في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن أبي عياض قال‏:‏ كان الرجل يجيء فيسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيقيم فيهم، فتغزوهم جيوش النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقتل الرجل فيمن يقتل فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ وليست له دية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن السائب عن أبي يحيى، عن ابن عباس نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏تَوْبَةً مّنَ الله‏}‏ يعني تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطأ الكفارة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة‏:‏ أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه، وفيه نزلت الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير نحوه، وفيه أن مقيس بن صبابة لحق بمكة بعد ذلك، وارتدّ عن الإسلام‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً‏}‏ بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين، وهي قوله‏:‏ ‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً‏}‏ نزلت بعد قوله‏:‏ ‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ بستة أشهر‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏ بأربعة أشهر، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جدّاً، والحق ما عرّفناك‏.‏